فصل: تفسير الآيات (18- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 24):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
قلت: {مثلاً}: تمييز.
يقول الحق جل جلاله: {ومن أظلمُ} أي: لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً}؛ بأن أسند إليه ما لم يقله، وكذب بما أنزله، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. {أولئك يُعرضون على ربهم} يوم القيامة، بأن يحسُبوا في الموفق، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد، {ويقول الأشهادُ} من الملائكة والنبيين، أو كل من شهد الموقف: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ، لظلمهم بالكذب على الله، ورد الناس عن طريق الله.
{الذين يصُدُّون عن سبيل الله}؛ عن دينه، {ويبغونها عِوَجاً}؛ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب. أو يبغون أهلها أن يعرجوا عنها بالردة والكفر، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي: والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير؛ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي: ما كانوا ليعجزوا الله في الدنيا أن يعاقبهم. بل هو قادر على ذلك، واخرهم ليوم الموعود، ليكون أشد وأدوم. {وما كان لهم من دون الله من أولياءَ} يمنعونهم من العقاب، {يضاعف لهم العذاب} بسبب ما اتصفوا به، كما ذكره بقوله: {ما كانوا يستطيعون السمعَ وما كانوا يبصرون}؛ لتصاممهم عن الحق، وبغضهم أهله. {أولئك الذين خسروا أنفسَهم} حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} من أن الأصنام تشفع لهم، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة. {لا جرم} لا شك، أو لابد {أنهم في الآخرة هم الأخسرون}: فلا أحد أكثر خسراناً منهم؛ حيث حرموا النعيم المخلد، واستبدلوا بالعذاب المؤبد.
ثم ذكر ضدهم فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتُوا} أي: اطمأنوا أو خشعوا، أو تابوا {إلى ربهم أولئك اصحابُ الجنة هم فيها خالدون}؛ دائمون.
{مَثَلُ الفريقين} المتقدمين؛ فريق الكافر وفريق المؤمن: {كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع}، فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما، فهو تمثيل للكافرين بمثالين، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي: يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى؛ لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير؛ لأن أمره بالضد، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم، والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة، كقوله: فالأدب الصَّابُح فالغانم، فهذا من بيان اللف والطباق. اهـ. {هل يستويان}: هل يستوي الفريقان؟ {مثلاً}؛ أي: جهة التمثيل، بل لا استواء بينهما، {أفلا تذكرون}؛ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
الإشارة: كل من ترامى على مراتب الرجال، أو ادعى مقاماً من المقامات وهو لم يدركه، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه، يُفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويقال له: {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم...} الآية. فكل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين. وقد تقدم أمارات من كان على بينة من ربه، فمن ادعى مقاماً من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادى عليه الآية.

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
قلت: من قرأ: إني؛ بالكسر، فعلى إرادة القول، ومن قرأ بالفتح، فعلى إسقاط الخافض، أي: بأني، و{بادي الرأي}: ظرف ل {اتبعك}، على حذف مضاف أي: وقت حدوث أول رأيهم. وهو من البدء أي: الحدوث، أو من البُدُوِّ، أي: الظهور. أي: اتبعوك في ظاهر الرأي دون التعمق في النظر.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} فقال لهم: {إني لكم}، أو بأني لكم {نذير مبينٌ} أي: بين ظاهر، أو أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه، قائلاً: {ألا تعبدوا إلا الله}، ولا تعبدوا معه غيره، {إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ أليم}؛ مُؤلم، وهو في الحقيقة صفة للعذاب، ووصف به زمانه على طريقة جَدَّ جَدُّه، ونهاره صائم؛ للمبالغة.
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نَراك إلا بشراً مثلنا}؛ لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة، {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلُنا}؛ أخساؤنا وسُقَّاطنا؛ جمع ارذل. {بادِيَ الرأي}؛ من أول الرأي من غير تفكر ولا تدبر، أي: اتبعك هؤلاء بادي الرأي من غير ترو. أو ظاهراً رأيهم خفيفاً عقلهم، وإنما استرذلوهم، لأجل فقرهم، جهلاً منهم، واعتقاداً أن الشرف هو المال والجاه. وليس الأمر كذلك. بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة، ومعرفة الحق. وقيل: إنهم كانوا حاكة وحجامين. وقيل: أراذل في أفعالهم، لقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الشعراء: 112]، ثم قالوا: {وما نَرى لكم} أي: لك ولمتبعيك {علينا من فضلٍ} يؤهلكم للنبوءة، واستحقاق المتابعة. {بل نظنكم كاذبين}؛ أنت في دعوى النبوءة، وهم في دعوى العلم بصدقك. فغلب المخاطب على الغائبين.
الإشارة: تكذيب الصادقين سنة ماضية، وأتباع الخصوص موسومون بالذلة والقلة، وهم أتباع الرسل والأولياء وهم أيضاً جُل أهل الجنة؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: «أَهلُ الجَنَّة كُلُّ ضَعِيفٍ مُستَضعَفٍ». وقالت الجنة: مَا لِيَ لا يَدخُلُني إلا سُقَّطُ الناس فقال لها الحق تعالى: «أنتِ رَحمَتي أَرحَمُ بِك مَنْ أَشاء» حسبما في الصحيح.

.تفسير الآية رقم (28):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
قلت: {أنلزمكموها}: يصح في الضمير الثاني الوصل والفصل؛ لتقدم الأخص.
يقول الحق جل جلاله: {قال} نوح لقومه: {يا قوم أرأيتم}: أخبروني، {إن كنت على بينة من ربي}؛ على طريقة واضحة من عند ربي، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواي، {وآتاني رحمة من عنده} النبوة، {فعميت}؛ خفيت {عليكم} فلم تهتدوا إليها، {أنلزمكموها}؛ أنكرهكم على الاهتداء بها {وأنتم لها كارهون} لا تختارونها ولا تتأملون فيها. ولم يؤمر بالجهاد، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب.
الإشارة: طريقة أهل التذكير الذين هم على بينة من ربهم أنهم يُذكرون الناس، ولا يكرهون أحداً على الدخول في طريقهم، إذا عميت عليهم، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (29- 30):

{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
يقول الحق جل جلاله:، حاكياً عن نوح عليه السلام: {ويا قوم لا أسألكم عليه}؛ على التبليغ المفهوم من السياق، {مالاً}: جُعلاً انتفع به، {وإن أجري إلا على الله}؛ فإنه المأمول منه. ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه، فقال لهم: {وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم} فيخاصموني إن طردتهم، أو: إنهم ملاقوه فيفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟ {ولكني أراكم قوماً تجهلون} لقاء ربكم، أو بأقدارهم، أو تسفهون عليهم فتدعُوهم أرذال، أو قوماً جُهالاً استحكم فيكم الجهل وشختم فيه، فلا ينفع فيكم الوعظ والتذكير. {ويا قوم من ينصرني من الله}: من يدفع انتقامه عني {إن طردتهم} وهم بتلك الصفة الكاملة من الإيمان والخوف منه؟ {أفلا تذكرون} فتعلموا أن التماس طردهم، وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
الإشارة: قال القشيري: قوله تعالى: {لا أسألكم عليه مالاً}، فيه تنبيه للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء أن يتأدبوا بأنبيائهم، وألا يطلبوا من الناس شيئاً في بث علومهم، ولا يرتفقوا منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، وما ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكر بها من الدين، ويعظ بها المسلمين فلا يبارك الله فيما يُسمعون به عن الله، ولا ينتفعون به، ويحصلون به على سخط من الله. اهـ.
قلت: هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك، بحيث لو لم يعط لم يُعلم، أو لم يُذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر لله، ثم يتصدق عليه لله، فلا بأس به إن شاء الله. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء، وكل من يأتيهم ويذكرونهم ويعرفونهم بالله، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له، وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم؛ بذلوها لله، فأغناهم الله. وقد تقدم عند قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...} [التوبة: 103] بعض الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
يقول الحق جل جلاله: قال نوح لقومه: {ولا أقول لكم عندي خزائنُ الله} حتى أنفق منها متى شئت، فأستغني عن مباشرة الأسباب، بل ما أنا إلا بشر، أو لا أدعي ما ليس لي فتنكروا قولي، أي: لا أفوه لكم، ولا أتعاطى غير ما ألهمني الله له، فلست أقول: عندي خزائن الله، أي: القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها. أو: عندي خزائن الله التي يتنزل منها الأشياء، كالريح والمياه ونحوها، كما قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] فتبرأ عليه السلام من هذه الدعوى.
ثم قال: {ولا أعلمُ الغيبَ} أي: ولا أقول: إني أعلم الغيب، فأعلم من أصحابي ما يسترونه عني في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر منهم. أو: لا أعلم أنهم اتبعوني في بادي الرأي عن غير بصيرة وعقد قلب {ولا أقولُ إني ملكٌ} حتى تقولوا: ما نزال إلا بشراً مثلنا. {ولا اقول للذين تزدري أعينُكم} أي: تحتقرهم. من زريت على الرجل: قصرت به. قلبت تاؤه دالاً؛ لتجانس الزاي للتاء، والمراد بهم ضعفاء المؤمنين، أي: لا أقول في شأن من احتقرتموهم، لفقرهم: {لن يُؤتهم الله خيراً}؛ فإنَّ ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. {والله اعلم بما في أنفسكم} من خير أو غيره، {إني إِذاً} أي: إن قلتُ شيئاً من ذلك، {لَمِنَ لظالمين}.
قال البيضاوي: وإسناده إلى الأعين؛ للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية، مما عاينوه من رثاثة حالهم، وقلة منالهم، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم. وقال أيضاً: وإنما استرذلوهم لفقرهم؛ لأنهم لمَّا لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم، والمحروم منها أرذل. اهـ.
الإشارة: لا يشترط في وجود الخصوصية ظهور الكرامة؛ فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له في الغيب. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (32- 34):

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
قلت: {إن اردت}: شرط حذف جوابه؛ لتقدم ما يدل عليه، وكذا (إن كان الله يريد أن يُغويكم)، والتقدير: إن كان يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت ان أنصح لكم. أي: فكذلك. فهو من تعليق الشرط، كقولك: إن دخلتِ الدار، إن كلمت زيداً، فأنتِ طالق. فلا تطلق إلا بهما، ثم استأنف: (هو ربكم).
يقول الحق جل جلاله: {قالوا يا نوحُ قد جادلتنا}: خاصمتنا {فأكثرت جِدالنا}: خصامنا ومخاطبتنا، {فأتِنا بما تَعِدُنا} من العذاب، {إن كنتَ من الصادقين} في الدعوى والوعيد، فإن مناظرتك ووعظك لا يؤثر فينا. {قال} نوح عليه السلام: {إنما يأتيكم به الله} دوني {إن شاءَ} عاجلاً أو آجلاً، {وما أنتم بمعجزين} بدفع العذاب عنكم، أو الهرب منه حتى تعجزوا القدرة الإلهية، {ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم}، وأراد الله {ان يُغويكم}، فإن النصح مع سابق الشقاء عنت. وهذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام لا طائل تحته، وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء، وأن خلا ف مراد الله تعالى محال. ولذلك قيل: مراد الله من خلقه ما هم عليه. ثم قال: {هو ربُكمْ}؛ خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. {وإليه تُرجعون} فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة: ينبغي لأهل الوغظ والتذكير أن لا يملوا ولو أكثروا إذا قابلهم الناس بالبعدُ والإنكار، وليقولوا: ولا ينفعكم نصحنا إن أردنا ان ننصحكم {إن كان الله يريد أن يُغويكم...} الآية.

.تفسير الآية رقم (35):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
يقول الحق جل جلاله: {أمْ يقولون}؛ أي: كفار قريش: هذا الذي يقرؤه محمد علينا، ويقصه من خبر مَن قبلنا {افتراه} من عنده. {قل} لهم: {إن افتريتُه}؛ تقديراً {فعليَّ إجرامي}؛ اي: وباله عليَّ دونكم، {وأنا بريء مما تُجرمون}؛ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم.
الإشارة: ينبغي لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفي بعلم الله، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم لمن كذبه: {إن افتريته فعلي إجرامي...} الآية. وفي الحِكَم: (متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم).
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يُصيبك في قلبك ودينك، وأذاهم يُصيبك في عرضك وبدنك ودنياك، وأيضاً: أذاهم يردك إليه، فهو فائدتك، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم، فهو مصيبة توجب ثلاثاً، هي علامة عدم القناعة بعلمه: أولها: التصنع والمراءاة، والثاني: طلب رضاهم بما أمكن في جميع الحالات. الثالث: إظهار علمه وعمله وحاله، ليعلموا برتبته.
والقناعة بعلمه علامتها ثلاث: أولها قصد الإخلاص في كلٍّ، بحيث لا يبالي أين رآه الخلق، وكيف رأوه. الثاني: طلب رضاه بالعمل بطاعته، وترك ما لا يرضيه، رضوا بذلك أو سخطوا. الثالث: الاكتفاء بعلمه فيما يجري عليه من حكمه وحكمته، قال إبراهيم التيمي رضي الله عنه لبعض أصحابه: ما يقول الناس فِيّ؟ فقال: يقولون إنه مرائي، فقال: الآن طاب العمل. قال بشر الحافي: اكتفى والله بعلم الله. فلم يحب أن يدخل مع علم الله غيره، وقال أيضاً: سكون النفس لقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي. وقال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه: من أحب أن يعرف بشيء من الخير، أو يُذكر به، فقد أشرك مع الله في عبادته؛ لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لا تنشر علمك، ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله. وإن كان لام العلة موجوداً، فَعِلَّةٌ تكون بينك وبين الله من حيث أمرك، خير لك من عِلَّة تكون بينك وبين الناس، من حيث نهاك. ولعِلَّةٌ تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله. اهـ. المراد منه.